آدب

فالنتينا تيرشكوفا… اطلالة من خلال الألعاب الأولمبية البيضاء

عندما كنت أشاهد على الشاشة الصغيرة، افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الشتوية الحاملة رقم 22، في منتجع سوتشي الروسي المطل على البحر الأسود، التي تميزت بالضخامة والإنبهار، لفتني العرض التاريخي المتحرك، للمراحل والمحطات العديدة التي مرّت بها روسيا، منذ أمبراطورية القياصرة وعائلة رومانوف التي تلاعب راسبوتين بمشاعر أفرادها بشكل مأساوي، وصولاً الى عهد فلاديمير بوتين، مروراً بدولة السوفيات التي امتدت حدودها من أوروبا الى آسيا، من خلال البلدان العديدة التي كان يتألف منها الإتحاد، ولم تلبث أن تقلصت بعد انهيار النظام الشيوعي كإنهيار قصور من ورق! وهكذا، تداخلت في العرض، الرياضة البيضاء مع الثورة الحمراء، والسياسة مع الأدب، ولينين مع تولستوي ودوستويفسكي وشولوخوف،وتشايكوفسكي وسيمفونيته الخالدة "بحيرة البجع" مع يوري غاغارين أول رائد فضاء في التاريخ… أما أكثر ما لفتني في هذا العرض المدهش، فهو ظهور أربعة رجال وأربع نساء، يعتبرون من أبطال هذه الدولة ورموزها في مختلف ميادين الحياة، ومن بينهم رائدة الفضاء الشهيرة والجميلة فالنتينا تيرشكوفا، التي زارت لبنان بعد عودتها من الفضاء الخارجي في سنة 1963، وكنت أحد الشهود على تلك الزيارة التاريخية. وانني ما زلت احتفظ بالصور التي التقطت لها في ذلك الحين، وأبدو في إحداها بينها وبين المترجم، كما يبدو أيضاً بعض الزملاء. واختتمت الألعاب الأولمبية البيضاء بشكل مبهر أيضاً، والتي قيل ان لا مثيل لها في تاريخ هذه الألعاب. وسقطت دمعة من عين الدب الروسي – الإصطناعي طبعاً – ليتجدد هذا اللقاء الجميل بعد أربع سنوات في كوريا الجنوبية.

يومها استقبلتها بيروت كما تستقبل كبار القادة والنجوم، وقد تسنى لنا، نحن أهل الصحافة، أن نلتقي بها خلال وجودها عندنا، في اكثر من مناسبة، وخصوصاً خلال المؤتمر الصحافي الحاشد الذي عقدته في فندق فينيسيا بحضور نقيب الصحافة يومئذ عفيف الطيبي.
في ذلك المؤتمر، تساقطت الأسئلة عليها من كل حدب وصوب، ومن كل نوع ولون… وكانت تجيب بكل طيبة خاطر، والابتسامة العذبة ترتسم فوق ثغرها.
في بلاد الربيع الدائم
كانت فالنتينا تيرشكوفا تتميز بأنوثة طاغية، وكانت قبلة أنظار جميع الذين حضروا المؤتمر الصحافي. كان عمرها 25 سنة تقريباً، وهي المولودة في سنة 1937، وعمرها اليوم 77 سنة، ولكنها ما زالت تحافظ على جمالها.
أذكر أننا كنّا في فصل الشتاء، ولكن الطقس في تلك السنة، كان أقرب ما يكون الى الربيع منه الى الشتاء، تماماً كما هي حالنا اليوم، ولذلك عندما خرجت الى شرفة الفينيسيا، وشاهدت السماء الصافية، والشمس الساطعة، والشواطىء الهادئة، قالت:"لبنان هو بلاد الربيع الدائم".
لقد أحبت هذا الوطن، وعندما عادت في سنة 1969 الى المنطقة العربية، وزارت الأردن وسوريا، كان لبنان أيضاً، في استقبالها مرة ثانية.

أبعد من حدود الأرض
الإستقبالات الكبيرة التي قوبلت بها أول رائدة فضاء في العالم، أينما حلّت وكيفما توجهت، إنما تحمل في حدّ ذاتها الكثير من المعاني، وفي مقدمتها معنى انطلاق المرأة من سجنها الضيق الذي كانت تعيش ضمن جدرانه طوال قرون وقرون!
قبل فالنتينا تيرشكوفا، كانت المرأة العصرية التي تحررت من قيود الماضي، والتقاليد المزمنة، تكتفي بالمساهمة جنباً الى جنب مع الرجل حسب امكاناتها المحدودة، وطموحها القصير المدى، ولذلك، رأيناها كاتبة، ورسامة، وصحافية، ومحامية، وطبيبة… رأيناها سكرتيرة في مكتب، ومدرّسة في جامعة، وموظفة في مؤسسة … وعندما كان الطموح يصل الى حدّه الأقصى، كنّا نراها زعيمة سياسية قد يصل بها شعبها الى سدّة الحكم، وقد يتركها تغيب في أفق النسيان!
أما بعد تجربة "سندريلا عصر الفضاء" التي أبصرت نور الحياة في دولة تلعب فيها النساء دوراً شبيهاً الى حدّ بعيد بدور الرجال، لم تعد أبعاد المرأة ذات حدود تقف عندها، بل قفزت من فوقها، وحطمت في طريقها جميع الحدود والسدود، وجميع العراقيل والصعاب، حتى تعدى طموحها حدود الأرض، فإذا هي تقتحم الفضاء الخارجي، وتصبح أول إمرأة في العالم تدور حول الكرة الأرضية عشرات المرات، وتعود في ما بعد الى قواعدها سالمة.

نظرة تاريخية
من البدهي القول، ان أول إمرأة طارت وحدها في الجو، كانت جان هيرفو، الطيارة الفرنسية التي توفيت سنة 1955. كما ان أول إمرأة اجتازت بمفردها المحيط الأطلسي بعد لندبرغ، هي الطيارة البريطانية أماليا ايرهارت، التي اختفت مع طائرتها سنة 1937 في الشرق الأقصى.
أما أشهر طيارات عصر الطيران النفاث، فهي الأميركية جاكلين كوشران، التي كانت أول إمرأة تقود قاذفة قنابل نفاثة، وتعبر بها المحيط، من العالم الجديد الى العالم القديم، وذلك سنة 1941. وتأتي من بعدها الفرنسية جاكلين اوريول إبنة رئيس الجمهورية الفرنسية الأسبق فنسان اوريول، وقد سجلت في ذلك الحين رقماً قياسياً، إذ طارت بسرعة تبلغ ضعفي سرعة الصوت.
ولكن انتصار فالنتينا تيرشكوفا الذي تحقق خلال سنة 1963، طغى على بقية الإنتصارات التي حققتها النساء في مجال الطيران.

سندريلا القرن العشرين
في تلك الحقبة من الزمن، كان الإتحاد السوفياتي ما يزال متفوقاً على الولايات المتحدة الأميركية في حقل الفضاء الخارجي، وكانت الخطوة السوفياتية الجديدة التي نشأت عنها مساهمة العنصر النسائي، تتويجاً لذلك التفوق الذي استمر لسنوات.
وقد كان الصدى الذي أحدثه ذلك الانتصار العلمي قوياً جداً داخل بلاد "سندريلا القرن العشرين" وخارجها أيضاً.

ردود فعل إنفعالية مختلفة
في موسكو أحدثت الرحلة الفضائية الناجحة ردود فعل انفعالية لم تعرفها العاصمة السوفياتية من قبل. فقد أعطيت الأولوية في صالونات تصفيف الشعر لكل فتاة أو سيدة تحمل اسم فالنتينا. وكانت كل إمرأة تريد تصفيف شعرها على الطراز الذي ظهرت به صورة رائدة الفضاء الطاغية الأنوثة، التي لم تهمل تسريح شعرها الذي هو كلون سنابل القمح في حقول أوكرانيا، قبل 36 ساعة من طيرانها!
وفي المستشفيات دعيت معظم المولودات الجديدات بإسم فالنتينا! وقد تجلى الإنفعال يومئذ، حتى على رجال شرطة السير الذين أعفوا، للمرة الأولى، المخالفين لقوانين السير من دفع الغرامات!
وفي الوقت نفسه، استثمرت أجهزة الإعلام هذا الإنتصار من أجل الإشادة بحسنات النظام، وتفوقه على سائر الأنظمة العالمية!

حوار بين الأرض والفضاء الخارجي
يومئذ، كان الرجل الأوكراني الضاحك نيكيتا خروشوف، ما زال سيّد الكرملين دون منازع، ولم يترك هذه المناسبة المهمة في تاريخ بلاده أن تمر من دون مساهمته في عملية الإخراج!
ففي أثناء دوران سفينة فالنتينا حول الأرض، أجرى معها خروشوف الحوار الأول بواسطة الهاتف اللاسلكي، معرباً لها عن فرحته الكبرى واعتزاز بلاده بها، قائلاً:"ها أنت اليوم الشاهدة على ما تفعله المرأة في يومنا هذا". وأضاف:"لقد تناولت الطعام في البيت، وكان يعج بالنساء اللواتي لا يمكنني أن أصف لك فرحتهن… وبعد ذلك، اتصل بي الماريشال فوروشيلوف، فقال لي: هل تذكر انني كنت في كل الاحتفالات أشرب نخب النساء؟ ها انت ترى ماذا يفعلن الآن. فأجبته قائلاً: لا تحاول أن تحتكر مناصرة المرأة بالقول أنك كنت دائماً معها بينما نحن كنّا ضدها!".

استقبال بالخبز والملح
الى هنا وانتهى الحوار الأول بين خروشوف وفالنتينا. وعند هبوطها على الأرض أجرى معها الحول الثاني، قائلاً لها:"ان صوتك جهوري، وكأنك عائدة من حفلة راقصة". أجابته فالنتينا:"ذلك لأن السكان استقبلوني استقبالاً حاراً بالخبز والملح. لقد هبطت في ظروف حسنة، وان صحتي جيدة".

سيرة متشابهة بين خروشوف وفالنتينا
وما أشبه سيرة فالنتينا تيرشكوفا بسيرة نيكيتا خروشوف الذي بدأ حياته العملية راعياً للمواشي في قرية من قرى أوكرانيا، ثم عاملاً في مصنع من المصانع الأجنبية التي كانت منتشرة إنتشاراً واسعاً في روسيا القيصرية!
وفالنتينا تيرشكوفا ليست سوى ابنة سائق تراكتور زراعي من قرية ماسلينيكوفو التي تبعد مسافة مئة ميل عن موسكو. قتل والدها في بداية الحرب وهو يقاتل ضد الألمان الغزاة. وقد تركها طفلة صغيرة يتيمة، وهي لا تتذكره كثيراً، ولكنها كانت تشعر بوجوده دائماً، فصورته تطل عليها من ضمن إطار كبير في غرفة نومها!
وفي مطلع شبابها كانت فالنتينا عاملة في مصنع للنسيج في أثناء النهار، وتلميذة طموحة في أثناء الليل. عاشت حياة عادية جداً، ولكنها لم تلبث أن انتقلت من الزوايا الظليلة لمصنع النسيج الى عالم الأضواء، وقمة المجد والشهرة.
ولم تعد سندريلا مجرد فتاة خرافية من نسج الخيال، بل اصبحت حقيقة وواقعاً، وإنسانة من لحم ودم.

اسكندر داغر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق