الاقتصادمفكرة الأسبوع

التقشف سقط في الشارع والبديل تحفيز النمو

لم يعد التقشف هو «الوصفة العجيبة» لمعالجة ازمات الديون التي تتخبط فيها الدول الصناعية والدول النامية على حد السواء، وهذا ما كرسته مجموعة العشرين التي عقد وزراء المالية فيها ورؤساء البنوك المركزية اجتماعاً في موسكو منذ ايام، تمهيداً لانعقاد القمة في مطلع ايلول (سبتمبر) المقبل، واستبدلت المجموعة معادلة التقشف بمعادلة تعزيز النمو والتحفيز الاقتصادي.

من الواضح ان وزراء مالية مجموعة العشرين الذين التقوا في موسكو تبنوا المفهوم الاقتصادي الجديد الذي طرحه صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في اجتماعات الربيع الماضي، وعنينا بهذا المفهوم الجديد الاقلاع عن التقشف كعلاج لازمات الديون واستبدالها بالتركيز على الاستثمار تعزيزاً للنمو وتحفيزاً للاقتصاد، وهو المفهوم الذي كانت الولايات المتحدة واليابان السباقتين اليه، ومن الطبيعي ان يتأثر العالم، غنياً كان او متوسطاً او نامياً، بالخيار الاميركي – الياباني، باعتبار ان ازمة الديون لم تستثن دولة صناعية او ناشئة او نامية، خصوصاً ان هذا الخيار مكن واشنطن وطوكيو من الخروج من الركود الاقتصادي، واعادة احياء الحياة والحركة الاقتصادية، وتقليص نسبة البطالة.

التحفيز الاوروبي
تسعى اوروبا فعلاً الى سلوك الطريق الذي سلكته الولايات المتحدة واليابان من خلال المضي قدماً في سياسات التحفيز الاقتصادي للوصول الى الاهداف المنشودة رغم بقائها الحالي وسط دائرة الركود الاقتصادي والازمات المالية.
وبقدر ما ركزت مجموعة العشرين على عدم جدوى التقشف حذرت من خطورة اللجوء الى تقليص مفاجىء لسياسات التحفيز الاقتصادي، والمثال الاكبر على ذلك الخطر هو تفاعل الاسواق الاميركية والعالمية مع اي تلميح اميركي على لسان رئيس الاحتياط الفيدرالي عن النية في تقليص حجم هذه السياسة قبل نهاية العام، خصوصاً عندما تكون التداعيات ارباكاً في الاسواق المالية، وابرزها ارتفاع الدولار، وهبوط سعر الذهب واسواق الاسهم، وخروج الاموال من الاسواق الناشئة التي يبدو انها سوف تدخل في دوامة انهيار الاسواق، وهروب الاموال، وعودتها مجدداً الى الولايات المتحدة الاميركية. وهذا ما كان دفع الاميركيين على تأجيل الاعلان عن تقليص حجم سياسات التحفيز الاقتصادي بهدف تهدئة الاسواق وابقائها تحت السيطرة.
وكان المجتمعون في موسكو من وزراء مالية ورؤساء بنوك مركزية قد وقعوا ورقة اعلان اعترافهم بمنافع سياسات ضخ الاموال والتحفيز الاقتصادي في كل من الولايات المتحدة واليابان مع ملاحظتهم استمرار التضخم في منطقة اليورو والتباطؤ الاقتصادي في الدول الناشئة وانكفأ المجتمعون عن التعهد والالتزام بتخفيض مستوى العجز المالي، وحجم الدين العام قبل العام 2016 وقرروا ان البداية تبقى في التركيز على تعزيز النمو الاقتصادي وزيادة عدد الوظائف. ويبدو ان المانيا كانت الشاذة عن هذا المنحى من خلال تمسكها بخفض الديون فيما باتت القروض السيادية، بحسب وجهة نظرها، اقل تطلباً على هذا الصعيد، مما يؤشر الى بدء اقتناعها بسياسات التحفيز الاقتصادي بدلاً من سياسات التقشف الموجعة والمرفوضة من شعوب الارض. ويبدو ان المانيا التي تتابع ارتفاع نسبة البطالة في اوساط الشباب الاوروبي في منطقة اليورو الى اكثر من 60٪، قررت التراجع عن مبادىء التقشف التي لم تقدم اي ايجابية في كل من اليونان واسبانيا.

عواقب التقشف
في الواقع تعمل معظم الدول على خفض الانفاق بدعم من صندوق النقد الدولي، وهو ما تأخذ به دول الجنوب (بما فيها بلدان جنوب اوروبا) على نحو متزايد بخلاف بعض دول الشمال التي بدأت تشكك في وصفة التقشف والضبط المالي، وحتى لا يبقى صندوق النقد الدولي في مرمى نيران القواعد الشعبية، وفي ضوء نجاح تجربة التشكيك باجراءات التقشف والاقلاع عنها انعطف الصندوق 180 درجة حاملاً لواء التحفيز والاستثمار بديلاً عن دواء التقشف غير الناجع.
ووفقاً لتوقعات صندوق النقد فان ثلاثة ارباع الحكومات الـ 119 التي قررت تقليص موازناتها هذا العام هي دول نامية، بما في ذلك 21 دولة منخفضة الدخل و68 دولة متوسطة الدخل. وتؤثر برامج تقليص العجز والديون الحكومية على نحو 80٪ من مواطني الدول النامية. ومن المتوقع ان يشتد تأثير هذه البرامج بشكل مطرد حتى العام 2015، وفي الوقت نفسه، فان حجم الانكماش سيكون كبيراً، حيث من المتوقع ان تخفض ربع الدول النامية تقريباً انفاقها الى ما دون المستويات المسجلة ما قبل الازمة.
ووفقاً لتقارير تتعلق بمناقشات السياسة العامة للدول الاعضاء في صندوق النقد نشرت في العام 2010، وهي جزء من تحديث شامل للتحول العالمي نحو التقشف، فان العديد من تدابير ضبط موازناتها تتركز  بشكل كبير في البلدان النامية، حيث يتحمل المواطنون بصفة خاصة، عواقب التقشف الاجتماعية والاقتصادية، وهذا ما يفسر هيجان الشارع، والاضطرابات المتنقلة.
ولعل مقياس الضبط المالي الاكثر شيوعاً، والذي تستخدمه حكومات 78 دولة نامية هو خفض اعانات الدعم، وكثيراً ما تكون المداولات حول هذا الموضوع – في 55 دولة نامية بالتحديد – مصحوبة بنقاش حول الحاجة الى شبكة امان اجتماعي لتعويض افقر المواطنين ارتفاع اسعار الغذاء والطاقة والنقل. لكن وضع وتنفيذ ارضية للحماية الاجتماعية يستغرق وقتاً طويلاً، ولا يبدو ان الحكومات راغبة في الانتظار. ففي الوقت الذي تزيد الحاجة الى المساعدات الغذائية، فان بعض الحكومات تعمد الى وقف الاعانات الغذائية، وتبادر اخرى لتقليص الاعانات المخصصة لدعم اسعار المدخلات الزراعية كالبذور، والاسمدة، والمبيدات الحشرية، وهو ما يؤدي الى اعاقة الانتاج المحلي من المواد الغذائية.

الاجور والايرادات
وعلى نحو مماثل فان خفض اجور القطاع العام او وضع حد اقصى لها – وهو ما يجري حالياً في 75 دولة نامية – يهدد بتقويض جودة الخدمات المقدمة للمواطنين، وخصوصاً على المستوى المحلي في المناطق الريفية الفقيرة، حيث يستطيع معلم او ممرض ان يحدد اي الاطفال يحصل على التعليم او الرعاية الصحية، وايهم يحرم منها. ويشتد هذا الخطر في 22 دولة نامية، حيث يفكر صناع السياسات في اصلاح نظام الرعاية الصحية، وفي 47 دولة نامية حيث تدور مناقشات عامة حول اصلاح نظام معاشات التقاعد.
وفي شأن الايرادات تفكر نحو 63 دولة في زيادة ضرائب الاستهلاك مثل ضريبة القيمة المضافة، لكن فرض الضرائب على المواد الغذائية الاساسية والمستلزمات المنزلية قد يخلف تأثيراً غير متناسب على الاسر ذات الدخل الادنى، والتي تعاني اصلاً من محدودية مواردها، وهو ما قد يؤدي الى تفاقم التفاوتات القائمة.
وبدلاً من خفض الانفاق يتعين على قادة الدول النامية، وفق ما طرح في اجتماع موسكو، ان يركزوا على توفير فرص العمل اللائقة، وتحسين مستويات المعيشة لمواطنيهم، وينبغي لهم ان يدركوا ان التقشف لن يساعدهم في تحقيق اهداف التنمية، بل على العكس من ذلك، فان خفض الانفاق سوف يلحق الضرر باكثر مواطنيهم ضعفاً.


اتحاد مصرفي اوروبي
استحوذ النمو على اهتمامات المجتمعين في موسكو الى حد تجاوزهم او اغفالهم موضوع التسابق على خفض العملات، اي على ما بات يعرف بـ «حرب العملات». اما الوضع الاوروبي فنال نصيباً مهماً من النقاش والاهتمام، بحيث ارتأى المجتمعون ايجاد اتحاد مصرفي اوروبي من شأنه اعادة انعاش الاقراض بين دول منطقة اليورو، علماً بأن ازمة الاطراف في اوروبا قد نشأت من هروب الاموال من هذه الدول الى دول اوروبية اخرى ذات قطاع مصرفي اكثر صلابة. وواجهت الصين مطالبات بضرورة العمل على تشجيع الاستهلاك الداخلي. ويبدو ان الاجراءات الاخيرة لتخفيف كلفة الاقتراض في الصين لم تكن كافية في اعتقاد كثيرين في مجموعة العشرين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق