دولياترئيسي

اسرار موقف موسكو من مفجر فضيحة التجسس الالكتروني

اعتاد العالم، منذ دائماً، على ان تقوم اجهزة المخابرات، بالتجسس، في كل مكان. وهي لا تزال تفعل، وعلى كل شيء. ولكن الصفاقة، في العلاقات الدولية، هي ان يتظاهر احد بانه لا يعلم، بينما التجسس، من كل نوع هو من اكبر قواعد هذه العلاقات. والكل يعلم.

في غياب معلومات رسمية، علمنا من تسريبات اعلامية، ان المخابرات الاميركية، تجسست على كل الناس، في ممثليات الامم المتحدة في نيويورك وفي واشنطن، وفي الحلف الاطلسي والاتحاد الاوروبي، في بروكسل، وعلى سفارات وعواصم، وان «الحشرية»، شملت المجالات الستراتيجية والاقتصادية.
ولا عجب، ان تحتج المستشارة الالمانية انجيلا ميركل، بقوة اكثر مما فعل الاتحاد الاوروبي، لانها على ابواب انتخابات عامة، ستجري بعد ثلاثة اشهر، فأعربت عن اشمئزازها من تجسس يمارس على اصدقاء وحلفاء، فاعتبرته من بقايا ممارسات كانت تجري بين الاعداء في ايام الحرب الباردة، وطالب الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، بضمانات على ان ما حصل، لن يتكرر، قبل المباشرة في مفاوضات بين الاتحاد الاوروبي والولايات المتاحدة، على اتفاقية تجارة ح
رة، وكذلك احتجت المسؤولة عن سياسة الاتحاد الاوروبي الخارجية كاثرين آشتون، ووعد الرئيس الاميركي اوباما، بان يشرح. واكتفى حتى الآن، بملاحقة المسؤول عن افشاء هذه الاسرار، ادوارد سنودون، الذي يتأرجح مصيره على مفاوضات بين موسكو وواشنطن، وتبادل مصالح وخدمات في دنيا الجاسوسية، وعجز الرجل عن الحصول على لجوء سياسي في اي واحدة من اكثر من 20 دولة سعى اليها، بما فيها اعداء الولايات المتحدة، في سائر انحاء العالم، وهو قابع في مطار موسكو التي تؤكد كما الجميع، انه ليس عميلها.
وكان التدبير الوحيد، الذي اعلنته واشنطن، هو الغاء جواز سفر سنودون، فجمدت تحركاته الرسمية، باستثناء الاتصال الانترنيتي الذي تسبب بكل مشاكله.

شبح سنودون
وفي الانتظار، يخيم على اوروبا شبح اسمه ادوارد سنودون، وظاهرة فضيحة التجسس الالكتروني، التي بطلها ادوارد سنودون، زلزلت ظاهرياً على الاقل – قواعد الديبلوماسية العالمية. وكانت اخر مظاهرها، حادثة ديبلوماسية، جعلت حكومة بوليفيا، تصف احد تشعباتها بـ «التسلط الامبريالي»، عندما رفضت دول اوروبية، ان تسمح لطائرة ريكس بوليفيا، اوغو مورالس، بان تعبر مجالاتها الجوية او تهبط في مطاراتها، في طريق العودة من موسكو،. فاضطرت الطائرة الرئاسية البوليفية، وعلى متنها الرئيس مورالس، الى الهبوط في مطار فيينا، للشك بانها قد تكون تحمل على متنها سنودون، المحلل السابق، لرسائل انترنت، الذي كان يعمل في خدمة المخابرات الاميركية، وافشى اسرار عملياتها، فأثار زلزالاً، في انحاء العالم. وكانت فرنسا رفضت السماح لها بعبور مجالها الجوي، ورفضت البرتغال السماح لها بالتوقف اضطرارياً في احد مطاراتها. وكذلك فعلت ايطاليا، ثم تبين ان الشك كان في غير محله. و«انه جرى تعريض حياة الرئيس الى الخطر، من دون سبب». بعد ان اجبرت الطائرة على تغيير وجهتها، لدى اقترابها من الاجواء الفرنسية. وكشف وزير الدفاع في بوليفيا ان البرتغال، سمحت للطائرة بالعبور، من دون ان تسمح لها بالتزود بالوقود، بينما كان عليها ان تعبر المحيط الاطلسي، ورفض الجميع، استقبال الرجل، حتى اليوم… من دون مقابل.
واذا كان التجسس، حتى على الاصدقاء امراً مفروغاً منه، لانه معتمد من الجميع، فانه يبدو ان وكالة الاستخبارات الانترنيتية الاميركية، تخطت الحدود، وذهبت الى ابعد مما هو مسموح، في المدى الزمني والمجالات المعروفة، كما لم يسبق.
لاي هدف؟! لجمع معلومات ذات طابع استراتيجي واقتصادي، كما اشرنا. وهو مجال يتصارع عليه، الجميع، من كل لون وصوب. ولكن الحشرية الاميركية، امتدت الى نواح اكثر شخصية من رجال اعمال وشخصيات سياسية، ذوي ارتباطات وقادة يمسكون باسرار وعمليات واضحة مرتبطة بمنظومات سياسية.
اي كل ما يمكن استغلاله كسلاح للضغط والمبادلة. وتسمح الادوات التي في تصرف الدولة الجديدة بان تغذي ملفات «مستقبلية» بمعلومات كثيرة. قد لا تكون اليوم ذات فائدة، ولكن مستقبلاً من يدري؟!

تجنيد المتعاونين
وهناك عنصر ثالث، هو تجنيد المتعاونين، فهناك رجال ونساء ويتعاونون، تلقائياً ام تحت الضغط ويقدمون معلومات.
واشنطن بررت عملها، بمحاربة النشاطات الارهابية، وضرورة مواجهة الاعداء ولكن ذلك لا يكفي الا جزئياً، لتبرير التجسس على الحلفاء، وسفاراتهم وممثلياتهم. من دون ان ننسى اننا ما زلنا في البداية، لان سنودون، هدد باكثر. بينما المؤكد، هو انهم في عالم المخابرات، يتجسسون على كل شيء، هذا هو شغل الجواسيس، الذين لا يفرقون بين صديق وعدو.
والمشكلة ليست في هذا النشاط، انه معروف، ولكن في ظواهر مثل سنودون، استطاع ان يكشف مدى ضعف نظام مخابرات، على يد محلل معلوماتي بسيط، في ازمة، انها السوسة الجديدة، التي ضربت المخابرات الاميركية والعالمية، بالتالي لانها معرضة كلها للمشكلة ذاتها، ولكن من هو الذي سيحاسب الولايات المتحدة لانها تلقت خلال سنة واحدة، صفعة تلو الاخرى، اولاً من الجندي مانينغ الذي اطلق الفضيحة المعروفة بويكيليكس. ثم من المحلل الانترنتيتي، سنودون. انها ظاهرة لا تليق باكبر دولة في العالم. والبقية تفاصيل، والمصيبة هي في ضعف الدول الاصغر حجماً والاقل اهمية.
ولا ندري اذا كانت عدوى ام ردة فعل، ان تكون المانيا، اصدرت اليوم بالذات قانوناً يسمح لاجهزة مخابراتها بالاطلاع على المعلومات الشخصية، عن الذين يستعملون انظمة انترنت وتلفونات خلوية في المانيا بحيث اصبح في امكانية السلطات الالمانية، ان تفعل ما صنعته فضيحة وكالة المخابرات الاميركية، فأعربت جمعيات الدفاع عن الخصوصيات عن قلقها من ان تمتد مساعي المخابرات الالمانية الى ما توصلت اليه الاميركية.
وسط كل هذا الضجيج، الذي يذكر بايام الحرب الباردة، توقف المراقبون عند حدثين اخرين:
من جهة، موقف السلطات الروسية، من سنودون، الذي وصل الى موسكو، ولم تسمح له بعبور ابواب المطار، حيث يبقى منذ ايام، عاجزاً عن ايجاد دولة تستقبله، بالرغم من ان بوتين يعتبره «منشقاً»، مثل زاخاروف، وليس «خائناً».

عميلان روسيان
والحدث الثاني، هو صدور في هذا الوقت بالذات، حكم من احدى المحاكم الالمانية، في مدينة شتوتغارت، بسجن عميلين سريين روسيين، اكثر من خمس سنوات، اسمهما هايدرون واندرياس آنشلاغ، اعتقلا في سنة 2011، بقوة السلاح، من دون ان تستطيع المخابرات الالمانية، معرفة حقيقة هويتهما، واذا كانا متزوجين حقيقة ام اذا كانا استعملا هذه الصفة للتغطية. فجوازا سفرهما النمساويان مزوران، وتعتقد الصحف الالمانية ان اسم هايدرون الروسي، هو اولغا، واندرياس، هو ساشا، وبررا لهجتهما الاجنبية، بانهما ولدا في اميركا اللاتينية. وتقول المصادر ان عمرهما هو على التوالي 52 و55 سنة، بينما الشيء الوحيد المؤكد، هو ان لاولغا وساشا، ابنة المانية في الواحدة والعشرين من العمر، اسمها آنا، تدرس الطب، في جامعة ماربوروغ في مقاطعة هسّه، وشددت اولغا، طوال المحاكمة على ان آنا لم تكن تعرف شيئاً عن نشاطاتها التجسسية، وطلبت وسط الدموع ان يتركوها تواصل دروسها.
الزوجان انشلاغ، امضيا 25 سنة تقريباً، في المانيا، يجمعان بين التكنولوجيات الجديدة وطرق التجسس التقليدية، التي كادت قصة الاميركي سنودون، تنسينا انها لا تزال قائمة وناشطة. وكانت الشرطة التي توجهت الى منزل الجاسوسين الروسيين، مدججة بالسلاح، فاجأتهما يرسلان معلوماتهما بواسطة جهاز راديو يعمل على الموجة القصيرة ومربوط بجهاز انترنت.
محكمة شتوتغارت، تعتبر من المؤكد ان الاثنين كانا يرسلان المعلومات والوثائق السرية عن الحلف الاطلسي والاتحاد الاوروبي، الى موسكو، وكانا في البداية يعملان بتكليف من ك. ج. ب. ثم من وكالة المخابرات الخارجية، التي قامت بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، مقابل 100 الف يورو في السنة. وكان هو يعمل مهندساً، وهي ربة بيت. انهما جاسوسان مهنيان، قالت القاضية سابينه روغنبرود، لدى قراءة قرار محكمتها، في يوم الثلاثاء الماضي، 2 تموز (يوليو) «ان عملهما كان يقود الى جعل المانيا تخسر سيادتها».
وسعى الاثنان خلال المحاكمة، الى تحويل الانظار، عن نشاطهما التجسسي، فشددت هي على التحدث عن ابنة الاثنين، بينما تفجر ساشا، غضباً، عندما احتج على احتجازه في سجن شتامهايم، لان السجن بني في السبعينيات، لمحاكمة ارهابيي كتائب الجيش الاحمر، التي شكلت وصمة عار على جبين المانيا.

تبادل الجواسيس
يبدو ان الزوجين المزيفين، يعتمدان على مفاوضات، كانت تواكب المحاكمة سراً، قد تؤدي مثلما كان يجري في اكثر ايام الحرب الباردة عتمة، الى تبادل الجواسيس، في نشاط يمارسه الجميع.
فعلى مسافة 8000 كلم من مدينة شتوتغارت، يقبع في غياهب سهوب سيبيريا، معسكر للمعتقلين، يقضي فيه عقوبة سجن، الكولونيل السابق في جهاز المخابرات الداخلية الروسية، فلاديمير ميخائيلوف الذي يبلغ اليوم الثانية والستين من العمر. وكانت محاكمته السرية انتهت في سنة 2012، بسجن الرجل 18 عاماً، ومن المفترض الا تكون شروط سجن عميل مزدوج في خدمة الاميركيين، افضل من التي يعيشها الروسيان، في سجن شتوتغارت – شتامهايم الالماني، ويبدو ان اللعبة تقضي باطلاق سراح ميخائيلوف، مقابل تحرير «الزوجين» آنشلاغ. وكان الكولونيل الروسي، زود الولايات المتحدة بكمية كبيرة من المعلومات السرية الثمينة، من داخل دوائر التجسس الروسية.
وكان الاعداد لاول عملية تبادل جواسيس بين الشرق والغرب، بعد سقوط جدار برلين بدأ في سنة 2011، عندما ارسلت واشنطن، احد خبرائها الى برلين حيث ناقش الموضوع مع زملاء المان ثم رأى الروس ان ملف «الزوجين» آنشلاغ، لا يوازي اهمية قضية الكولونيل ميخائيلوف فطلبوا ان يضيف الالمان حرية الهولندي ريمون فالنتينو بويتيراي، كذلك، وكان الهولندي باع الى الزوجين المزورين انشلاغ، وثائق تجسسية، ويقضي بويتيراي عقوبة 12 سنة سجناً، في بلاده.
الخطة الاساسية كانت تقضي باطالة محاكمة اندرياس وهايدرون او اولغا وساشا، حتى شهر ايلول (سبتمبر)، ويبدو ان اختصار زمن المحاكمة، يشير الى ان روسيا والمانيا والولايات المتحدة تناقش اتفاقية تبادل جواسيس. كما في ايام الحرب الباردة.
ويبدو ان لكل واحد اختصاصاته وان الروس لا يزالون يفضلون الاستثمار اعتماداً على التجسس «الانساني»، وحتى «الجسدي». فمنذ زمن حذرت اللجنة الاوروبية، موظفيها من اغراء «متمرنات حسناوات، ذوات القوام الممدود والشعر الاشقر»، الروسيات.
بينما يفضل الصينيون، جحافل المراسلين الصحافيين، واحياناً، عروض عمل، لا ترفض لبناء ممثليات ديبلوماسية، وتجهيزها، كما في المغرب وكولومبيا وباكستان.

جوزف صفير
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق