آدب

اميل كبا: أنا الناي والكمان وأعطي صوتي لكل الألحان

يعتبر الدكتور اميل كبا من كتّابنا الكبار، فهو يكتب كما يتنفس وفي مختلف فنون الكتابة، حتى صارت الكتابة عنده ضرورة من ضروريات الحياة، كالماء والهواء والطعام، بدونها لا تكتمل دورة الحياة. وكما قال لي خلال لقائي به – بعد غياب دام سنوات – انه الربابة، القيثار، الناي والكمان، يعطي صوته لكل الألحان. وكما قال أيضاً، الكلمة بالنسبة إليه، رئة ثالثة، لا بدّ منها لحياة معافاة. في مختلف كتاباته زاوج اميل كبا بين الإمتاع والإنارة، بين الفن والفكر، سواء في الشعر أو في النثر. من هنا، فإن التعددية في أنواع الكتابة لديه، نعمة لا نقمة، لأنه يدرك تماماً أن الكتابة في أي نوع من الأنواع،ينبغي أن تحمل كل ما هو جميل ومفيد للإنسان، وأن تكون وسيلة عبور نحو الآخر. اميل كبا هو صاحب القلم المضيء والعميق والمعطاء.

ما الذي دفعك الى ميدان الكتابة؟
فكرة ثابتة لديّ أن الكتابة، حتى الفنية، إنما هي ضرب من السلوك، على مثال تحريكك يدك في الخدر أو ابتسامك للمحيا الجميل، أو قل كالزهرة تلك التي لا يمكن أن تخنق عطرها في برعمها كل طلعة شمس.
بمعنى آخر، الكتابة عندي صنو التنفس، نشقاً وصعداء، حتى لا أجد مناصاً للتخلص من قدري هذا.
ثم أرى الكتابة محاولة من الكائن الحالم، الذي هو نحن، لإعادة ترتيب الأشياء وصولاً الى أمان داخلي في تجربة زمنية مكانية لم نخترها عندما لفظتنا الحياة على رصيفها.

درب الجلجلة
كيف تختصر تجربتك الأدبية؟
وهل تستطيع أن تحصي أنفاسك في هذا المدى. ما دامت الكتابة صنو حياة، أي رفيقة درب، ولست بعارف الى أين؟
إذاً، كيف بإمكاني أن أتبيّن أين كنت وأين أصبحت على درب هذه الجلجلة التي اسمها الكتابة.
زمنياً، وعذراً للمقارنة، أراني في المراحل الأخيرة، مع أني لم يجف عودي بعد، ولم ينضب ماء قلمي.
هل حققت شيئاً؟ أترك الأمر لقارئي فنجاني ذات يوم، ودارسي بعض أدبي، هذا إن وجدوا في مضلّة الأيام الوافدة إلينا مستقبلاً.

  عبور الى الآخر
أنت تتعاطى مع مختلف فنون الكتابة… فأنت الأديب والشاعر والمعلّم والناقد واللغوي والصحافي، وما الى هنالك… فأي من الفنون الأقرب اليك؟
أنا الربابة، القيثار، الناي والكمان، أعطي صوتي لكل الألحان. وما همّ نوع الكتابة، ما دامت هذه طريقة عبور الى الآخر، وهذا الآخر، مسؤول في النهاية، عن فهمها وإشاعتها، كما إنكسار شعاع مرآة. هذا يدخلني في العلاقة الوثقى بين الكاتب والقارىء. ان العمل الفني كالرؤية من الباصرة، نصفها في الآخر المتلقي، وإذا لم يفعل فإنما الأمر لقصور في الرؤية.
أما الفن الأقرب اليّ فهو أنني أقف بجمع كياني وراء قلمي كحالي
عندما أبكي أو ابتسم، أراني لا أفعل ذلك بالتقسيط بل بكل ما أنزلته الطبيعة في شخصي مشاعر ومزاجاً وأحاسيس، فضلاً عمّا يسميه النقاد القدرة الخالقة في الإنسان.
أنا أكتب وحسب، مرة جديدة على النقاد يوماً أن ينصفوني، بشرط أن يروني.

الزمن والوطن والإنسان
ما يشغلك في هذه الأيام؟
في الصفحة الأخيرة من مجلة «الحكمة» التي أرأس تحريرها، باب أسميته «رقى الأيام»، أنزلت فيه، وأنزل تباعاً، كل ما يشغلني في حاضري وأيامي. من ذلك على سبيل المثال: الزمن والوطن والإنسان، مع أيقونة جامعة لكفّارة وطلب شفاء هي الحب. انها موضوعاتي الأساس في كل أدبي، ولا أجزم، فربّ هابطة يوماً من كوة الآتي تغيّر قليلاً من مساري.

الكتابة رئة ثالثة
كتبت كثيراً كثيراً… وما زلت تواصل الكتابة، عما يبحث اميل كبا؟
أنا لا أبحث، أنا أحيا، فالكلمة لي رئة ثالثة، لا بدّ منها في عرفي لحياة معافاة. ولكن، على صعيد فني صرف، أراني باللغة ومعها كمن في حقل اختبار، وصولاً الى مرتبة من الكمال التي ما من انسان يبلغها في هذه الحياة. وقد أعيد الكتابة في الموضوع نفسه مرات ومرات، لأن ما من حدث يتكرّر – كما يقول برغسون – فأنا والحالة هذه أمام جديد ولو قديماً. أنا قلت لك يا صديقي، ان الكتابة ميرون خلاصي به أمان نفسي وطمأنينتها؟!
أليس في الكتابة خلاص للإنسان؟
المعنى الخلاصي للإنسان الفرد – الكاتب، ممكن بالإرتياح الذي تمحضه الكتابة صاحبها، لكن في المدى الحياتي الأكبر وعلى الصعيد الحضاري تبدو الكتابة ككل فن خلقاً جديداً للحياة بسنّها نواميس جديدة في العلاقة بين الأشياء، واذا الشجرة مثلاً خيمة خير، والحبيبة أيقونة في مصلّى، والزهرة شاعرة برية لغتها العطر واللون في باب الشمس.

حال الكتابة
هل ما زالت الكلمة عندنا بخير، أم انها فقدت صدقيتها وفاعليتها ودورها؟
الكتابة اليوم، ليست بخير، اجتاحتها العقلية الإستهلاكية ولوثة العولمة على معنى حضارة التسهيل وفقدان حسّ الجمال. والأخطر، أنها فقدت دورها الريادي تسامياً بالقارىء المتلقي وجنح بها متطفلوها منحى إسترخاء الناس بدلاً من إنتزاع شهقات إستحسانهم.
نحن في مرحلة تصنيع التماثيل لا استحداث المدهش المبتكر منها. هو العصر، حيث الإنسان بضغط اللقمة والحرب وسائر البشاعات غدا في صراع مع الزمن، همّه معه أن ينتهب اللحظة قبل عبورها، استفادة واستمتاعاً بكل متاح وبأرخص الأسعار وبأقل جهد ممكن.
قلت: الكتابة تحتاج الى راء ومرئي، ولا استقامة لرؤية من دونهما معاً. من هنا، أعطني هذين بالمستوى والمقام المطلوبين، لا نسأل بعدها: ما حال الكتابة اليوم؟

نظرة الى الشعر
كيف تنظر الى الشعر الذي يكتب اليوم؟
أنا لا أفرّق في مسألة الشعر بين عروضي ومنثور، ذلك لأن الشعر شعر، انطلاقاً من أن نقيض الشعر هو النظم وليس النثر.
وبعد، فليكتب كل إنسان ما يشاء وكيفما يشاء، فالدنيا بمعناها الثقافي تسع الجميع، وهل دائماً الكاتدرائيات العظيمة تفضل قاعة متواضعة رصدت لعبادة في قرية بعيدة. مرة جديدة، هو القارىء، أي المتعبد في السياق، أبحث عن إيمانه لحظة مقاربته الشعر.

قدر الغرباء!
ما وراء ابتعاد القارىء عن قراءة الشعر؟
نحن في حضارة التسهيل والعولمة مصادرة التمايزات بين الناس والشعوب والدول. ما أشبه قارئنا اليوم والحال هي هذه، من قناني المشروبات الغازية متقاطرة في شبه عجيب داخل مصانعها!
طبعاً، كما في كل عصر، هناك من يسمى الخاصة، أهل فكر وفن وتعبّد وما تشاء، قدرهم أن يبقوا الغرباء في بيئاتهم الضالة، حتى ينفذ الله أمراً كان مفعولاً.

خطر العولمة
في سياق الحوار، ذكرت العولمة أكثر من مرة، فما هو مفهومك لها؟
العولمة ذات وجه سياسي ولا أفهم السياسة إلا بخلفيات خلقية، حتى اذا تعرّت من هذه الخاصة غدت كما هي اليوم وجهاً استعمارياً جديداً، الغلبة فيه للأقوياء، أما الضعفاء، دولاً وأمماً، فلعبودية مستحدثة. فضلاً عن ان هذه العولمة أزالت الحدود بين الشعوب حقاً، لكنها قتلت في الوقت نفسه روعة الفرادة لحساب النمط السائد وأداته في يد القوي، ولعل أخطر وجوه هذه العولمة ما نالنا منها بواسطة وسائل الإتصال التي حدّت من الإبداع لدى قارئنا اليوم وجعلته أسير الآلة، حتى لأرى أن الكتابة يوماً الى اختزال مشوّه وصولاً في النهاية مع استطراد وتيرة الإختراعات الى حلول الهمس أو الومء في النهاية مكان التعبير القولي السامي!.

اسكندر داغر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق