رئيسيسياسة عربية

اتفاقية اوسلو ماذا حققت؟

ما من اتفاق دولي اثار انقساماً حوله، كما اثار اتفاق اوسلو الذي ابرمه الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات قبل عشرين عاماً بالتمام والكمال اي في 13 ايلول (سبتمبر) عام 1993، والذي ابقته اسرائيل حبراً على ورق.

 6 اشهر من المفاوضات السرية بين منظمة التحرير الفلسطينية والكيان الصهيوني في عاصمة النروج، حول مسألة الحكم الذاتي انتجت اتفاقاً فاجأ حينها الفلسطينيين انفسهم، وفاجأ العالم العربي ولفت انتباه العالم كله.
في ذلك الحين، اصيب الفلسطينيون بذهول وارتباك وبلبلة، فغالبيتهم لم يكونوا في اجوائه ولم يكونوا ينتظرون ولادته على هذا النحو، ولكن الذي وقعه لم يكن شخصاً عادياً، بل هو الزعيم التاريخي الفلسطيني بلا منازع  اي عرفات. ومع ذلك فإن كثيراً من اعضاء حلقة المستشارين الضيقة التي احاطت بعرفات طوال اعوام، احاطة السوار بالمعصم، كالشاعر العربي المعروف (رحل لاحقاً) محمود درويش وكالمفكر الكبير ادوار سعيد، والكاتب المعروف بلال الحسن وكالسياسي المخضرم شفيق الحوت وغيرهم وغيرهم… اعترضوا، وكان اعتراضهم جسور الخروج من منظمة التحرير الفلسطينية، تركوها وخلفوا وراءهم اعواماً طويلة من النضال والتضحيات.
اعتراض هؤلاء وسواهم من الفصائل والشخصيات الراديكالية الفلسطينية فعل فعله داخل الوسط الفلسطيني الشعبي النخبوي، جرأ المعترضين واخفض صوت القابلين، ولكن ما من احد كان بمقدوره في ذلك الحين، ان يعارض او يواجه وثيقة وقعها القائد الرمز ابو عمار. ومع ذلك كله، لم يكن وجدان الشعب الفلسطيني مرتاحاً لهذه الاتفاقية ولمسارها، ولا لنيات اسرائيل باعطاء الشعب الفلسطيني بعضاً من حقوقه الشرعية.

صحة الهواجس
وها قد اثبتت الايام بعد عشرين عاماً صحة ما انتاب الشعب الفلسطيني المنكوب من هواجس ومخاوف ووساوس، عندما كشفت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية من مقرها الرئيس في تونس يومذاك، عن نتائج مفاوضات بعيدة عن الانظار جرت في عاصمة احدى ابرز الدول الاسكندينافية (اوسلو) لتعرف الاتفاقية لاحقاً باسمها.
ولا بد من الاشارة الى ان رئيس الوفد الفلسطيني الى مفاوضات اوسلو «ابو علاء» قريع، اصدر لاحقاً وبالتحديد بعد اعوام، كتاباً عن رحلة التفاوض الشاقة تلك التي خاضها، انطوى على نوع من التشكيك وعدم الارتياح للنتيجة التي آلت اليها هذه المفاوضات وللوليد الذي تمخضت عنه طوال ستة اشهر، فبدا الكتاب وكأنه نوع من تبرئة ذمة كاتبه، او تلاوة فعل ندامة. ولكن هيهات، فإن الاوان كان قد فات وبالتالي كان الاتفاق بكل مضامينه ومندرجاته المتشعبة والمعقدة التي يحتاج كل بند من بنودها الى اتفاق اخر وفق قول احد الزعماء العرب… قد سرى ونفذ.
بعد اماطة اللثام عن الاتفاق بأحد عشر شهراً، وبالتحديد في 10 تموز (يوليو) عاد عرفات وفريق عمله الى الاراضي الفلسطينية المحتلة. عاد مستنداً الى اتفاقية اوسلو ليشكل حكومة حكم ذاتي باسم السلطة الفلسطينية وينتخب رئيساً لها، ولكن يبدو انه كان المكسب الاكبر الذي اثلج صدور الشعب الفلسطيني، لتكر بعدها سبحة الاخفاقات واستطراداً النكسات وتتوالى الخيبات.

 اتفاق الضرورة
عرفات وفريق عمله، برروا بشكل ضمني للشعب الفلسطيني هذا الاتفاق الملتبس والغامض والذي لم يكن على قدر نضالات الشعب الفلسطيني وتضحياته الجسام منذ عام 1948، وما قبلها، بأنه اتفاق الضرورة واستتباعاً فإن الاتفاق لم يكن بالامكان التوصل الى احسن مما كان. فعندما قرر عرفات وقيادت
ه الذهاب الى الغرف الموصدة في عاصمة النروج ليبدأ رحلة التفاوض المباشر مع العدو المباشر، كان يدرك ان وضع منظمة التحرير كان صعباً، ووضع شعبه في الداخل الفلسطيني وبالتحديد في الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلة، كان اكثر صعوبة.
فالمنظمة كانت في ذلك الحين شبه معزولة ومفلسة، يحاصرها العرب انفسهم على خلفية تضامنها مع الرئيس العراقي السابق صدام حسين في غزوته المجنونة للكويت. والشعب الفلسطيني في الداخل كان في وضع المخنوق بفعل الاجراءات والتدابير الاسرائيلية المشددة التي فرضت عليه بعد انتفاضة الحجارة التي كانت بلغت ذروتها. لذا كان من اليسير الى حد ما على عرفات بفعل موقعه عند شعبه، ان يجعل هذا الشعب يتجرع غصص هذه الاتفاقية على امل ان تكون مدخلاً لانتزاع قدر اكبر من الحقوق وصولاً الى الهدف الاسمى اي اقامة دولة فلسطينية مستقلة على اراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، الى الارض التي بقيت من فلسطين التاريخية بعد نكبة عام 1948 والتي عادت قوات الاحتلال الاسرائيلي واحتلتها في حرب حزيران (يونيو) عام 1967، على ان تكون دولة ذات سيادة ومعترف بها دولياً وتتعايش جنباً الى جنب مع الكيان الصهيوني.
عاد عرفات الى الضفة الغربية حيث اتخذ من رام الله مقراً رئيسياً له، وعاد معه عشرات الآلاف من القيادات الفلسطينية من كل الفصائل والتنظيمات وبدأت شيئاً فشيئاً تتأسس المؤسسات الرسمية الفلسطينية، وكان الامل وفق اتفاق اوسلو نفسه، ان يعلن قيام الدولة الفلسطينية بعد خمسة اعوام بالتمام والكمال من توقيع الاتفاق، على ان تكون هذه الفترة مهلة زمنية لوضع الاتفاقات اللازمة لترسيم الحدود وبالتالي اخلاء المستوطنات وتقسيم القدس وما الى ذلك.
لكن رياح الامور سارت لاحقاً عكس ما اشتهته سفن القيادة الفلسطينية وصحت مخاوف وهواجس الشعب الفلسطيني الذي ظل مقيماً على حذره حتى وهو يشهد بأم العين حلم عودة الجسم التنظيمي الاكبر لقيادته المناضلة اي منظمة التحرير الفلسطينية يعود الى داخل الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين.

اغتيال رابين
لم تكن السنوات الخمس الموعودة كافية ليتحقق الحلم الفلسطيني الموعود لينزل الى الارض ويتجسد واقعاً. ففي 4 تشرين الثاني (نوفمبر) في عام 1995، اغتال يهودي متطرف معارض لعملية السلام رئيس الوزراء الاسرائيلي الاسبق اسحق رابين، لتكشف تلك الفعلة حجم الاعتراض في الداخل الاسرائيلي على مسار عملية التفاوض والسلام.
اغتيال رابين كان بمثابة جرس انذار مدو، اعاد عجلة الامور الى ما يشبه نقطة الصفر، وكشف عن عمق الانقسام في الداخل الاسرائيلي واستطراداً غلبة المعسكر الراغب بالحرب على المعسكر المحبذ للسلام.
بدأت الصعوبات والعراقيل وعمليات التشدد في جولات التفاوض حول البنود والنقاط المفترض ان يتم المرور عليها وصولاً الى ما صار يعرف بمفاوضات الحل النهائي. وخلال ذلك الوقت كانت قيادة منظمة التحرير وقد وفت بما تعهدت به،  تخلت عن البندقية ممثلة ببند الكفاح المسلح واسقطت من ميثاقها الاساسي البند الداعي الى تحرير فلسطين كل فلسطين.
ما بعد موت رابين، بدأ التعثر في درب رحلة التفاوض ومسيرة السلام، وكانت ذروة الاخفاق في تموز (يوليو) عام 2000، اذ يستضيف الرئيس الاميركي يومذاك بيل كلينتون محادثات جمعت عرفات ورئيس الوزراء الاسرائيلي السابق يهودا باراك في كامب دايفيد في الولايات المتحدة، لكن هذه المحادثات تنهار بسبب قضيتي القدس وحق العودة للاجئين الفلسطينيين، وبعدها بدت الامور تتدحرج صوب الكارثة وبمعنى ادق صوب الصدام، اذ اتضح ان لا مجال اطلاقاً للمضي قدماً، فالاسرائيليون قرروا ألا يعطوا والا يتنازلوا عن اي شيء بعد الان.

 شرارة الانفجار
واتت شرارة الانفجار على يد ارييل شارون الذي يمثل احدى القيادات العسكرية الاشهر في التاريخ الاسرائيلي المعاصر، اذ اقتحم على رأس قوة الحرم القدسي في القدس الشرقية، في اواخر ايلول (سبتمبر) عام 2000، مما ادى الى اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي لم تكن هذه المرة انتفاضة حجارة وايد عارية مستعدة للتكسير، بل كانت انتفاضة مسلحة.
غادر الطرفان محطات التفاوض والبحث عن انجاز اتفاقية اوسلو وما تبقى منها وهو الجزء الاكبر، ومضى كل منهما الى التشدد والمواجهة.
بعد 7 اشهر انتخبت اسرائيل شارون رئيس لوزرائها، اي انها اعلنت استعدادها للحرب وذهبت فعلاً الى مواجهات شرسة مع الانتفاضة، وشن شارون اعنف هجوم عسكري على الضف
ة الغربية منذ عام 1967 شمل مخيماتها ومدنها وقراها ودساكرها، وانتهى بمحاصرة عرفات في مقره في المقاطعة في رام الله.
وبعد عامين من الحصار، مرض عرفات مرضاً غامضاً، نقل على اثره الى مستشفيات باريس للمعالجة فكانت رحلة عبوره الى الحياة الاخرة، وقيل ان شارون نجح في تسميمه فقتله.
بعده اتى محمود عباس فنبذ العنف ورذل السلاح وبدأ مرحلة جديدة في التعامل مع الغرب واسرائيل اشبه بخريطة الطريق لاقامة دولة فلسطينية بحلول عام 2005 وهي الخريطة – الحل التي وضعتها لجنة رباعية تضم الى الولايات المتحدة، روسيا والاتحاد الاوروبي والامم المتحدة.
وفي 12 ايلول (سبتمبر) عام 2005، انسحبت اسرائيل من قطاع غزة بعد 30 عاماً من الاحتلال بموجب خطة للانفصال عن القطاع تقدم بها شارون، لكن الامور في الضفة الغربية سارت باتجاه معاكس تماماً، اذ لم تترك القيادة الاسرائيلية التي خلفت شارون اي فرصة او بارقة امل للايحاء بأنها راغبة فعلاً في الوصول الى النهايات التي تضمنها اتفاق اوسلو.
فإسرائيل التي استغلت سوء الاوضاع العربية في ذلك الوقت، وخصوصاً بعد احداث 11 ايلول (سبتمبر) والغزو الاميركي للعراق، وما تلا ذلك من هجمة غربية على العرب والمسلمين، لينجح في ايجاد تماه امام العالم بين الانتفاضة الفلسطينية والارهاب العالمي، وبالتالي تصادر المزيد من الاراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وتضم المزيد من المستوطنات وتعتقل الآلاف من الشبان الفلسطينيين مما ادى الى توقف اجتماعات الرباعية.

دولة فلسطينية
مكسب اخر يعتقد الفلسطينيون انهم نالوه وهو اعراب الرئيس الاميركي باراك اوباما عن تأييده لاقامة دولة فلسطينية استناداً الى حدود عام 1967 وتشمل الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، تلاه مكسب ثان تحقق في عام 2012، وكان مكسباً معنوياً وهو تصويت الامم المتحدة على منح فلسطين مقعد مراقب غير عضو في المنظمة الدولية.
وبعد ثلاث سنوات من وقف التفاوض وفي 29 تموز(يوليو) الماضي، وبرعاية اميركية مباشرة، عاود الفلسطينيون والاسرائيليون لقاءاتهم من دون ان يجرؤ احد على عقد رهانات على هذه الجولة الجديدة من جولات التفاوض.
ماذا بعد اتفاق اوسلو الذي ينهي حديثاً عقده الثاني؟
افضل توصيف للوضع تعطيه عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية حنان عشراوي اذ تقول انه منذ اعلان مبادىء اوسلو حققنا عودة القيادة الفلسطينية الى الاراضي الفلسطينية وعودة نحو 30 الف عائلة وبناء مؤسسات فلسطينية خاصة وبناء نظام فلسطيني خاص.
لكنها استطردت: «خسرنا الكثير سواء على صعيد الارض والموارد والقدرات الفلسطينية الخاصة، وفرضت اسرائيل بنية تحتية معينة (مستوطنات) وحولنا الى معازل منفصلة وباتت المستوطنات وكأنها الاساس والوجود الفلسطيني هو الجديد».
وختمت: «بات الوضع يهدد بالقضاء على فكرة حل الدولتين».
اذاً الاحتلال تعمق والاستيطان توسع… والجانب الفلسطيني عاد الى طاولة المفاوضات بالطريقة وبالاسلوب عينهما اللذين اتضح سابقاً انهما عقيمان.
فكيف يكون الحكم على هذه الاتفاقية؟.

ا. ب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق